الحرب الناعمة وخدعة الديموقراطية وحقوق الإنسان

بحث/ د. أثير هلال الدليمي
دكتوراه في القانون الدولي العام
متخصص في الامن السيبراني ومكافحة الجرائم السيبرانية الدولية

الحرب الناعمة… هي تلك الاستراتيجية المدمرة التي تبدأ بأفراد ما تلبث أن تنتشر في المجتمع لتؤثر عليه بأكمله.
إن أوَّل مَنْ صاغ أساليب هذه الحرب هو الفيلسوف الصيني (صان تزو المتوفى عام 496 قبل الميلاد)، إذ أكد في فلسفته امكانية تخريب أرض العدو وحضارته وانجازاته دون إطلاق رصاصة واحدة ودون ان يراك كخصم له.
يرى “صان تزو” سياسة الحرب الخشنة سبيلاً فاشلاً وغير مجد، بل وان انجح فنون القتال هو عدم الانجرار للاقتتال والحروب، كونها تودي الى نتائج عكسية وسلبية، ويمكن اللجوء إلى بدائل اخرى لتحقيق اهداف الحروب ومكاسبها من خلال التأثير على المستهدفين سواء كانوا دولاً أو مجتمعات أو مؤسسات بطرق عديدة تختلف باختلاف الزمن وتطوره تهدف الى شن حملة عدائية على المفاهيم الفكرية والدينية والقيمية والحضارية.
ان الحقب الإستعمارية السابقة، والحربين العالميتين اللتين ادخلتا الدمار والقحط والخراب لدول العالم، كفيلة بان تبحث الدول ولاسيما العظمى عن نوع جديد من الحروب التي تحقق فيها اعلى المكاسب باقل التكاليف والخسائر الا وهي الحرب الناعمة، التي باتت شيئاً فشيئاً تحل محل الحرب العسكرية التقليدية الخشنة او على الاقل تقدم عليها في التنفيذ.
ان الحرب الناعمة على الرغم من مشابهتها في المضمون والاهداف لانواع أخرى من الحروب فقد كانت تستخدم للتعبير عنها بأشكال وصور مختلفة: كحرب المعنويات، وغسل العقول، والغزو الثقافي، والحرب السياسية، وسميت بالحرب الناعمة كونها تستخدم القوة الناعمة.

مفهوم الحرب الناعمة :
عرف بعض الفقهاء الحرب الناعمة بأنها “قدرة الدول في الحصول على ما تريده من مكاسب، عن طريق الاقناع والترغيب والتأثير في سلوك الآفراد لتحقيق الأهداف المتوخاة والمخطط لها دون اللجوء إلى اسلوب الإرغام والترهيب والاستعمال المفرط للوسائل العسكرية الخشنة”.
ان أوّل مَنْ صاغ هذا المصطلح بمفهومه العام “جوزيف ناي” الأستاذ في جامعة هارفرد الأمريكية، ومساعد وزير الدفاع للشؤون الأمنية الدولية الاسبق في كتابه الصادر عام 1990 بعنوان “وثبة نحو القيادة”، كما قام بتطوير المفهوم في كتابه الصادر عام 2004 بعنوان “القوة الناعمة”.
عرف جوزيف ناي الحرب المرنة بأنها:استخدام كل الوسائل المتاحة للتأثير في الآخرين باستثناء الاستخدام المباشر للقوة العسكرية، ومن خلال تفسيرنا لمفهوم هذا التعريف نرى ان ناي أباح استخدام أية وسيلة من شأنها التأثير على الآخرين، بغض النظر عن كونها مشروعة أو غير مشروعة، ووفق منهج الغاية تبرر الوسيلة، على فرض ان الغاية الاهم هي بسط السيطرة والنفوذ على الدول وشعوبها وجعلهم ادوات تابعة لها ولسياستها دون ادنى مقاومة او معارضة، ويؤخذ على التعريف ايضا انه لم ينه او يحظر استخدام القوة العسكرية الخشنة، وخير دليل على ذلك هي الحروب التي شنتها الولايات المتحدة بالمباشرة أو بالوكالة.
وعليه فان هذه الحرب هي أقرب لاستخدام نظرية العصا والجزرة.

أهداف الحرب الناعمة:
تدور اهداف الحرب الناعمة حول محورين:
الأول:“توسيع مساحة وجاذبيّة الرموز الثقافيّة والتجاريّة والإعلاميّة والعلميّة للدولة وتقليص نفوذ منافسيها”.
الثاني: “بسط النفوذ والسيطرة وتحسين وتلميع جاذبيّة الدولة وصورتها وتثبيت شرعيّة سياساتها الخارجيّة، ومصداقية تعاملاتها وسلوكيّاتها الدوليّة، وضرب سياسات أعدائها”.

من الجدير بالذكر ان بعض الدول تلجأ إلى الحرب الناعمة لتخريب المجتمعات، من خلال تأسيس قيم جديدة على حساب القيم والاعراف السائدة، فيندفع الأفراد إلى تصديقها وتنفيذها بشكل طبيعيّ، مما يؤدّي إلى تغيير سلوكهم تبعاً لها وهكذا تتحول المجتمعات إلى أتباع بعد ان كانوا متحررين ومستقلين وأصحاب قرار.

موارد الحرب الناعمة :
ان من اهم مصادر القوة الناعمة هي كل أنواع الإنتاج الإعلامي والسينمائي، الطلبة والباحثين الأجانب الوافدين للدراسة في الجامعات والمؤسسات التعليمية، رجال الإعمال الاجانب والعاملين في قطاعات الأعمال المختلفة، شبكات الانتــــرنت والمواقع الالكترونية المنتشرة في الفضاء السيبراني، برامج التبادل الثقافي الدولي والمؤتمرات الدولية، الشركات التجارية الكبرى العابرة للقارات، الرموز والعلامات التجارية المعروفة.
ومن خلال ذلك يمكننا القول بان القوة الناعمة تنطبق على كافة المؤثرات والرموز الإعلامية والثقافية والتعليمية والبصرية والبحثية والتجارية والعلاقات العامة والدبلوماسية، وكل مورد لايدخل ضمن القدرات العسكرية المصنفة كقوة خشنة او صلبة.

الحرب الناعمة والحرب النفسيّة:

  • تقوم الحرب الناعمة بأساليبها المتنوعة على الاستمالة والإغواء والجذب، من دون أن تظهر للعيان، ومن دون أن تترك أية بصمات، في حين ان الحرب النفسية تقوم على إرغام العدو وتدمير إرادته ومعنوياته بصورة شبه مباشرة وعلنية.
  • الحرب الناعمة تستهدف الجميع، وفي كل الأوقات، وبوسائل متنوعة جداً، دعائية ترغيبية وتقوم على الجذب.
    أما الحرب النفسية فتتجه لإضعاف الذاتية الشخصية والقدرة، على اعتبار أن اي تاثير او أضعاف للحالة النفسية الذاتية والشخصية من شانه أضعاف الروح المعنوية فيسهل السيطرة.
  • أساليب وتكتيكات الحرب النفسية المعروفة تاريخيا فنورد أمثلة عليها:
    (الدعاية ضد معتقدات الخصم، الإشاعات، بث الرعب، الخداع، افتعال الأزمات، أثارة القلق، إبراز التفوق المادي والتقني والعسكري، التقليل من قوة الخصم والعدو، التهديد والوعيد، الإغراء والإغواء والمناورات، الاستفادة من التناقضات والخلافات، الضغوطات الاقتصادية، إثارة مشاعر الأقليات القومية والدينية، الاغتيالات، تسريب معلومات عسكرية وأمنية وسياسية حساسة عن العدو في الصحافة، الإفصاح عن امتلاك نوعية خاصة من الأسلحة الفتاكة، وغيرها من الوسائل ذات الطابع العام العسكري أو شبه العسكري)
    في حين تعتمد الحرب الناعمة على نفس الأهداف مع اختلاف التكتيكات التي أصبحت تكتيكات ناعمة، فبدلاً من تكتيكات التهديد تعتمد الحرب الناعمة على الجذب والإغواء عبر لعب دور المصلح والمنقذ، وتقديم النموذج الثقافي والسياسي، والادعاء باحترام حقوق الإنسان والديمقراطية وحريات التعبير وما شاكل من عناوين مضللة للعقول ومدغدغة للأحلام وملامسة للمشاعر.
    وفي التقيم والتشخيص نستنتج بعد المقارنة والمطابقة بين الحرب النفسية والحرب الناعمة انهما يسيران على خط واحد متوافقان في الأهداف، ويتعاكسان في الوسائل والأساليب.

كيفية مواجهة الحرب الناعمة.
الحرب الناعمة حالة تخريبيّة تقضي وقبل أيّ شيء آخر على قيم المجموعة؛ لذلك لا بد من النهوض للمواجهة.
وبما أنّ أساليب الحرب الناعمة كثيرة ومتعددة، بالتالي لابدّ أن تكون أساليب المواجهة كثيرة ومتعددة أيضاً، وعليه فان أساليب المواجهة يتمثل في المحورين التاليين:
الأوّل: جذري يهدف الى التوعية اللازمة لحماية وتحصين الافراد والمجتمع.
والثاني: احترازي ودفاعي ويراد منه المحاولة دون تأثير الأساليب التي يستعملها العدو، وهذا الأمر يتطلب تتبّع مخطّطات العدوّ والكشف عنها، ومن ثم التفكير في طريقة الرد.
وبشكلٍ عام، فإنّ العامل الأساس والمشترك في هذه الأساليب هو العمل على توعية الافراد وتنمية ثقافاتهم وزيادة حرصهم، ولا معنى لمواجهة الحرب الناعمة دون هذا العامل، حيث ستكون كافة المحاولات عبثيّة لا فائدة منها.

الهواتف الذكية والحرب الناعمة:
تعد الهواتف الذكية من اهم وانجح اسلحة الحرب المرنة لما تحتويها من تطبيقات مختلفة، وقابلية على تخطي الحدود الدولية بحجة العولمة والتواصل مع المجتمعات المختلفة بدون قيود وبدون حدود، فقد اخترقت هذه الاجهزة بقوة كلّ البيوت وغدت أهم وسيلة للاتصال والتسلية وبديلة عن العديد من الاجهزة السمعية والبصرية، فكان للاستخدام السيئ لهذه الاجهزة دور في تهديد العادات والأنماط السائدة في مجتمعاتنا من خلال التأثر بأنماط وعادات لا تمت لنا بأي صلة ابتداء من الملابس والموضات الرديئة وتسريحات الشعر الغريبة إلى آخر صرخات التبرج، ومكتبات الافلام والمقاطع الاباحية َومواقع تعلم الاجرام التي أوحت لكثير من المجرمين بأساليب شيطانية مبتكرة لارتكاب أفعالاً اجرامية لم تكن معروفة لدى مجتمعاتنا من قبل، ولاسيما جرائم التشهير والابتزاز الالكتروني التي تمارس بشكل كبير ضد افراد غرر بهم بطريقة واخرى لارتكاب افعال محرمة ومجرمة، وإجبارهم على دفع مبالغ أو القيام بأعمال خاصة تحت التهديد بالفضيحة.
ناهيك عن دورها المباشر في تعريض العلاقات الأسرية للتصدع، نتيجة لأهمال الأبوين أو وقوعهما ضحايا للابتزاز أو اغواء.
كما ساهمت ايضا في انتشار وتوسع مافيات وعصابات الجرائم المنظمة العابرة للحدود، مثل شبكات للإتجار في البشر والآثار فضلاً عن تجارة المخدرات وغسيل الأموال.
وفي نهاية المطاف لايفوتنا ان نذكر بان من اكبر تطبيقات الحرب الناعمة ماحصل بعد الحرب العالمية الثانية، فقد كان لهذه لحرب دور كبير في تفكك الاتحاد السوفيتي، والتاثير على شعوب دول الاتحاد فلم يطلق خلال هذه الحرب ولا رصاصة على دول الاتحاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *