حيدر منعثر يختصر ما لا يمكن اختصاره

بقلم: فراس آل عزيز

لست ناقداً لكنني متذوق. دخلت لاشاهد تفاهة تنسيني أوجاع وطن دامت لأكثر من خمسين سنة، لأضحك بطريقة مقرفة تثير القيء، وأسمع نكتة حتى وإن كانت خرقاء سأضحك حتماً أو أرى أثداء راقصة وهي تحاول شد انتباه الرجال لمفاتنها النتنة، وتثير غيرة النساء ليهرعن بعد العرض الى صالونات التجميل ومصانع الأرداف.
فهذا هو المتعارف عن مسرحيات هذا الزمن البائس.
جلست بجانب سيد يرتدي بدلة رسمية يمسك بيد سيدة محتشمة، وقبل أن تطفئ الأضواء ويرفع الستار عن المسرح وزعت لنا ظروف مختومة بعبارة” من فضلك لاتفتح هذة الرسالة الآن” ثم قال شخص يقف على الخشبة : واذا دفعك فضولك لفتحها فلاتُخبر بها من يجلس بجانبك.
وفي حقيقة الأمر لم يدفعني الفضول، لكني تخليتها صورة تذكارية أخذت للممثلين على هذه الخشبة كقيمة للعمل وحركة ذكية من المخرج لتحريك فضول الجمهور.
رفعت الستارة.. لم أكن أتخيل أني سأجد ذلك الكم الهائل من الذكريات المؤلمة، مشهد (التاتا) ” الباص الذي يقلنا إلى ما نبغي أن نصل إليه” ذكرني بأيام الحصار المجحف عندما كنت أذهب إلى الجامعة، أُحشر بين ستين أو أكثر من البشر، نقف مرصوصين كأننا أسماك لم تبلغ الحلم بعد تحشر في علبة سردين، وبدل الزيت ينضح منا العرق ونتنانة الزحمة، يتلطخ بها قميصي الأبيض الوحيد الذي صاحبني لأربع سنين.
لم أنتبه أنني ذهبت بعيداً عن مشاهد المسرحية، مسحت دموعي لأرى مشهد الطائفية حينما ذهبت لأزور والديّ في أحدى المناطق، أنا وزوجتي وابننا الرضيع لنقف في طابور عند نقطة تفتيش وهمية كما يسمونها آنذاك.

  • أنت منين.
  • آني.. من بغداد.
  • من يا عشيرة أقصد زمال.
  • عشيرتي ؟ آني من ال…
  • احجي سني لو شيعي؟
    فقدت السيطرة على ساقيّ التي خدرت وجلست على الأرض ليس خوفا من الموت رغم أنه أبشع ما يمكن أن يقال عن الموقف، لكنني خشيت أن يغتصبوا زوجتي ثم يقتلوا ابني أمام عيني.
  • آني لا سني ولا شيعي.
  • شنو تريد تحجيلي حزورة لو نكتة؟ احجي منين أنت؟
  • آني أريد أوصل عائلتي ووراها أجيكم تقتلوني ، ما أريد أعيش بعد..
    المخرج يعطي الضوء الأخضر لفتح الظروف المغلقة وعلى موسيقى حزينة بدأت بفتحه ، كان المكتوب هو مأساتي كلها مع غرابيب القاعدة.
    (زهرة بدن) أخذتني إلى بيت والدي في منطقة العطيفية، إلى حدائقنا رأيت والدي وهو عائد من عمله، يحمل بيده كيس يحوي بداخله ما تشتهيه نفسي، قبل أن يقطع بيتنا لنصفين يبيع نصفه، لنعيش بثمنه بمستطيل ضيق لا يسعنا، لكنه كان أوسع بكثير من بلد الغربة الذي رأيته في عيني (لؤي أحمد) وهو يحاول عبثاً أن يضحك وحين ينظر إلينا نرى لئلئة الدمع بعينيه.
    صراخ أمي حين أغلق هاتف أخي وبتنا ليلتين نبحث عنه في ثلاجات الطب العدلي، كان يصدر من (لمياء بدن) صراخها يشبه صراخ أمي حتى حين لطمت وجهها رأيت أمي تماما كما رأيتها في ذلك المصاب.
    لكن (طلال هادي) قائد التاتا كان مصراً أن يسير بنا رغم نعاسه لا يرتضي أن نقود بدلاً عنه، يريد أن يوصلنا لكن لا نعلم إلى أين.


يعد مفهوم “التكنيك التغريبي” من المفاهيم الثائرة على النمطية والابتذال في الأداء التمثيلي خاصة، والعرض المسرحي عامة؛ وهو من المناهج الأدائية التي تبناها المسرحي الألماني “برتولد بريخت” في فلسفته الفنية والمسرحية، والتي تقوم على تحرير الخشبة من الطبيعية المفرطة، وفسح المجال للخيال والتعبير الخلاَّق.
وقد وضعنا اليوم الدكتور حيدر منعثر أمام محطات تأملية عميقة ، ورمزية فلسفية راقية لنتسائل جميعنا ” وين رايحين” وما بين “دا” الفاقدة لركنها الثالث و انعكاسها لتكوّن الرقم العددي “۲۱” يبقى السؤال الذي ترك بصمته في قلوب جمهور هذا العمل الرائع ، ليثير بعدها فضول ما هو القادم؟
واذا ما أخذنا جانب السينوغرافيا المسرحية لـ ” وين رايحين ” فإننا حتما سنشاهد الجهد المعرفي والثقافة الفنية التي كانت واضحة وجلية من خلال تحقيق رؤية متكاملة في مثلث الإضاءة والصوت، والعازف مناصفة ، وتأثيث المسرح وحركة الممثلين .
اهتم الفنان المبدع حيدر منعثر وعنا بدرامية الصورة المسرحية لتحتل مكانة تشكيلية درامية جمالية حيوية تثير الإبهار لدى الجمهور.
استطاع بذلك التلاعب بانتباه الجمهور من خلال التقنيات الحديثة، وذلك بمزج الصوت والصورة والحركة والإضاءة، فكانت الحركة على المسرح من اجمل تلك المكونات، كما قدم للمشاهد صورا مركبة بحيث يمكن مشاهدة صورتين في الوقت نفسه وإن كانت هاتان الصورتان لاتنتميان إلى فترة زمنية واحدة. وقد ابدع في هذا الفنانين الذين أدوا اجمل ملحمة على هذه خشبة المسرح ، والتي اختصر فيها المؤلف حقبة زمنية مركبة الأحداث دامت لأكثر من نصف قرن ، والغاية من هذا المزج هو المقاربة النفسية أو الفكرية بين الحدثين مازجين بذلك الإيحاء بالتكامل الضمني والزمني .
وضع احدى نصوص المسرحية بين يدي الجمهور ليساهم في توقيت اختاره المخرج ليتخيل المتفرج ذلك المشهد ويرتقي بخياله الى تلك الخشبة ليكون أحد أفرادها وهو جالس على كرسيه كانت بعد رابع لإبعاد الفن المسرحي.
اختيار الفريق كان جزء من تلك الفلسفة التي تبناها الفنان الدكتور حيدر منعثر، فها نحن نرى بقلوبنا ونلمس بدموعنا ابداعهم .
وإذا ما تركنا التكنيك الفني والإخراجي ووقفنا نتحدث عن الفنانين فأننا سنلتقي بعمالقة كما وصفوهم من شاهدوهم ، حين نذكر دور كل منهم ونأخذهم تباعاً لا نقصد التقديم والتأخير بحسب القيمة الفنية والابداعية بل إننا مدينون بهذا العمل لكل من ساهم فيه لكننا سنسلط الضوء على ركائز العمل الخمسة فإننا سنجدهم قد تجاوزوا التقمص وذهبوا بعيداً إلى ان شخصوا تلك الشخصيات حتى بات المشاهد مندمجاً مع كل واحد منهم وكأنه يتحدث عن مأساته الحقيقية ، وهذا ما لمسناه بعد انتهاء العرض حيث بقي أكثر الممثلين داخل الشخصية لايقوى على الرجوع لحالته الطبيعيه .
المبدع لؤي احمد يحمل على كاهله غربة والم سنين ورغم هذا كله لم ينسى الكوميديا المفرطة التي يمتاز بها لكنه كان يخبئها خلف دموعه .
السيدة زهرة بدن تجاوزت المألوف وتنقلت بين شخصية واخرى واعطت لكل منها حقها لتضعنا في حيرة ، من هي الشخصية التي تجسدها هذه الفنانة ؟ الشابة الايزيدية، الطفلة التي تلعب في باحة بيت ابيها ام هي تلك الزوجة .
الام العراقية الرائعة الفاضلة لمياء بدن ابدعت حين امسكت بكل ادواتها لترسم الحزن قصائد وتدندن الالم لوحات رُسمت بأنامل الفقد ولون الدمع الاسود
اما قائد الباص طلال هادي فكان روح جميلة تضيء المسرح ، وترمي ورود الرمزية بمنتهى البسالة على مسامع من يريد سماعه .
وكان ختامها مسك مع المبدع اياد الطائي لينتهي العرض بعد ساعتين ونبقى نحن كجمهور في حالة من النشوة الحزينة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *